الأحد، 27 نوفمبر 2011

الثورات العربية كارثة استخباراتية بالنسبة لأمريكا والغرب
عبد الرزاق الجمل
بالنسبة لتنظيم القاعدة، لا جديد في الربيع العربي سوى أن هناك من بات يشاركه القيام بالواجب، واجب إسقاط الأنظمة، لدوافع وأهداف متقاربة كثيرا، أما الولايات المتحدة الأمريكية فلم تكن تتوقع حدثا كهذا،
وسيكون عليها التعامل بحذر هذه المرة، إذ لا جدوى من دعم أنظمة ضد شعوب تطالب بالحرية، لكن لا يجب أن يكون لهذه الشعوب كامل الحق في تقرير مصيرها بالشكل الذي تريد، لأن ذلك سيتعارض مع كثير مما أفرزته سياسة القوة الغربية طوال عقود، وعلى مطالب الربيع العربي أن لا تتجاوز هذا السقف، وعلى الشعوب أن تدرك هذا الأمر جيدا.
إن بلورة سياسة معينة تجمع بين الترحيب الأمريكي برغبة شعوب المنطقة العربية في التحرر، وبين الاطمئنان على مصالح أمريكا في المنطقة بعد زوال هذه الأنظمة، أمر يحتاج إلى وقت، لهذا لم تكن هناك سياسة واضحة للغرب، وللولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، في التعامل مع الثورة المصرية سوى التجاوب مع الأمر الواقع الذي يُفرض على الأرض، بالإضافة إلى بعض التصريحات التي كانت تهدف إلى الحفاظ على مكانة الغرب الحقوقية، والحرص على عدم خلق فجوة بين مواقفه ومبادئه في مناسبة حساسة كهذه.
لقد حُسمتْ الثورة في مصر قبل أن يرتد إلى الغرب طرفه، وقبل أن يعرف ما الذي يخدم أو لا يخدم مصالحه من المواقف التي يمكن أن يتخذها، لكن سيكون عليه أن يعمل على الحيلولة دون تكرار هذا الأمر بهذا الشكل مع ثورات جديدة، ولمثل هذا ستعمل أنظمة عربية أخرى ينتظرها الدور، وقد نجحوا في ذلك بشكل كبير، بل استطاعوا أن ينتزعوا من الشعوب "حق الحسم"، فثورة ليبيا حُسمت بطائرات النيتو الغربية، والثورة اليمنية على مشارف حسم بمبادرة عربية وبقرار أممي، وإلى ذات المصير تتجه الثورة في سوريا، رغم الصمود الأسطوري والفريد لشعب سوريا العظيم، أما بقية الشعـوب فستأخذ درسا من كلفة الثـورات هـذه وستحجـم عن الفعـل.
إن واقع الثورات العربية الذي أريد له أن يكون معقدا بهذا الشكل، جعل الشعوب العربية الثائرة، من التي تعقد أمر الحسم في بلدانها، ترحب بالانتقال من وضعها الثوري إلى أي وضع آخر، وعبر أية وسيلة، حتى لو كانت تتعارض مع مبادئها وأهداف ثورتها، فثوار اليمن الذين رفعوا، أكثر من غيرهم، شعارات ترفض الوصاية الخارجية، بل ووضعوا إحدى جمعهم تحت اسم "رفض الوصاية الخارجية" ها هي ثورتهم تتجه نحو الحسم بمبادرة إقليمية وبقرار دولي.
لقد أوجد الغرب فراغا ليملأه، في حين امتنع تنظيم القاعدة عن الحضور الفعلي في الثورة وخارجها، واكتفى بالتأييد، خشية أن تستغل الأنظمة حضوره لصالحها ضد ثورة يرى أنها لصالحه، كما أن من شأن ذلك أن يوسع الهوة أكثر بينه وبين الشعوب في وقت من شأن ما يحدث فيه أن يُـحدث العكس، فإسقاط الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي كان هدفا لتنظيم القاعدة قبل أن يكون هدفا لهذه الشعوب، وهذا النوع من الاشتراك في الأهداف قد يدفع الشعوب إلى مراجعة مواقفها من القاعدة وثقافتها عنها، إلا أن عشر سنين من الحرب على التنظيم، وما صاحبها من إرهاب فكري وثقافي شارك فيه محسوبون على هذه الأمة، حال دون أن تسير الأمور على النحو الذي أراده التنظيم تماما، إذ باتت الثورات، التي استبطن شبابها أهمية حضور الغرب، تحرص على نفي علاقتها بتنظيم القاعدة أو حضوره ثوراتها بأي شكل.
وربما حرك الشعور بعدم جدوى ذلك قاعدة اليمن بعد أن آثرت الصمت لأكثر من ثلاثة أشهر، فحققت خلال مدة وجيزة ما لم تكن لتحققه خلال أعوام، بسبب انشغال النظام المحلي عن مواجهتها بمواجهة الثورة، وصيرورة الوضع إلى الحالة التي تساعدها على النمو، وجدير بالذكر هنا أن عمل قاعدة اليمن لم يكن في إطار الثورة الشبابية ولا في مواطنها، حتى لا تعطي النظام ذريعة لسحق المتظاهرين في وقت يبحث فيه عن أشباه ذرائع، لكنها كانت تعمل لذات الهدف وتنطلق من نقاط مشتركة أيضا، وقد ساهمت أكثر من غيرها في إضعاف نظام صالح بسيطرتها السريعة على محافظة أبين الجنوبية، وسنتطرق لجدوى سياسة التنظيم من الثورات في موضعه.
والمؤكد الآن هو أن الثورات الشعبية العربية انحرفت جزئيا عن مسارها الطبيعي إلى مسار آخر راعت الشعوب فيه مخاوف الغرب، وهذا سيدفع شعوب الثورات التي حُسمت على نحو مغاير، كشعب تونس ومصر، إلى التعامل مع المرحلة التالية وفق ما آلت إليه أمور الثورات الأخرى في كل من ليبيا واليمن وسوريا، لا وفق ما آلت إليه ثورتها، حتى لا تجد نفسه في عزلة وأمام مسئولية أكبر من قدراتها، ما يعني أن التنظيم قد يعود لتحمل الواجب بمفرده نيابة عن الأمة، لكن في ظل مناخ أفضل.
إن الصراع الدائر بين تنظيم القاعدة والولايات المتحدة الأمريكية ضمن الثورات الشعبية العربية، أكبر من الصراع بين شعوب تلك الثورات وبين أنظمة الحكم في المنطقة، بدليل أن حسم الثورات من عدمه يتم بناء على تقدم وتراجع في هذا الصراع، وسنتعرض لذلك بالتفصيل من خلال سوق موقف الجهتين منذ انطلاق أول شرارة للثورة في تونس.
القاعدة ترحب بثورات الربيع العربي
لقد رحب تنظيم القاعدة بما يقوم به الشعب التونسي ضد نظام الرئيس زين العابدين بن علي، ولازال ما يقوم به في لغة وسائل الإعلام، مجرد احتجاجات شعبية معلومة النتائج في بلد يعرف نظامه جيدا كيف يتعامل مع هذا النوع من التطاول الشعبي.
كما أبدى فرع التنظيم ببلاد المغرب الإسلامي استعداده لمساعدة شعب تونس ضد نظام بن علي بأي شكل. حدث هذا قبل أن تتحول ثورة تونس إلى حالة عامة في معظم بلدان الوطن العربي اضطر التنظيم في ظلها إلى تغيير سياسته من الثورات حتى لا يؤثر حضوره على مسارها، فاكتفى بالتأييد لها بعد أن بدأت الأنظمة الديكتاتورية تستخدم ورقة تنظيم القاعدة لإجبار الغرب على مساندتها ضد شعوبها، لكنه استفاد كثيرا من انشغال الأنظمة بثورة شعوبها، كما سيأتي الحديث عنه في موضعه.
"إن ما يحدث في تونس هو صرخة احتجاج مدوية من ضحية في مواجهة جلادها كسرت جدار الصمت الذي خيم على تونس منذ عقود طويلة. إنها غضبة طال انتظارها وانتفاضة مباركة ضد الطغيان".. (أبو مصعب عبد الودود زعيم تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي يتحدث عن ثورة تونس).
لم تكن قيادة التنظيم العامة في أفغانستان بحاجة إلى إعلان موقف من ثورات الربيع العربي يمكن لفروع التنظيم في البلدان الأخرى أن تحذو حذوه، فلدى الأصل والفروع مبادئ واحدة لا بد وأن تأتي بمواقف موحدة، على النقيض تماما من وضع الطرف الآخر، ومن يراجع تصريحات القاعدة حول الربيع العربي، وتصريحات المسئولين الغربيين، سيدرك الفرق، وهو فرق كبير يساوي الفرق بين المصالح والمبادئ.. بين أمريكا والقاعدة.
إن التعرف على الجانب الأخلاقي والقيمي لتنظيم القاعدة سيحد كثيرا من سوء الفهم له، الذي يقع فيه الكثير، وسيحول دون القراءات الخاطئة لمستقبله، مثلما يحدث، فحين كان كثير ممن يُعتبرون مختصين في شئون القاعدة بعد الثورة المصرية منشغلين بإثبات أن نجاح الثورات السلمية العربية في الإطاحة بالأنظمة القمعية يُعتبر صفعة لتنظيم القاعدة ولوسائله، كان التنظيم يحتفل مسرورا بنجاح الثورة في مصر، فهمه الأكبر أن يتحقق الهدف الذي يسعى إليه حتى لو لم يكن هو ووسائله وسيلة ذلك.
"وبسرعة البرق أخذ فرسان الكنانة من أحرار تونس قبسا إلى ميدان التحرير فانطلقت ثورة عظيمة، وأي ثورة، ثورة مصيرية لمصر كلها، وللأمة بأسرها، إن اعتصمت بحبل ربها، ولم تكن هذه الثورة ثورة طعام وكساء، وإنما ثورة عز وإباء، أضاءت حواضر النيل وقراه، من أدناه إلى أعلاه، فتراءت لفتيان الإسلام أمجادهم، وحنت نفوسهم لعهد أجدادهم فاقتبسوا من ميدان التحرير بالقاهر شعلا ليقهروا بها الأنظمة الجائرة، ووقفوا في وجه الباطل ورفعوا قبضاتهم ضده.. فإلى أولئك الثوار الأحرار في جميع الأقطار، تمسكوا بزمام المبادرة، واحذروا المحاورة، فلا التقاء في منتصف السبيل بين أهل الحق وأهل التضليل. (الشيخ أسامة بن لادن في كلمته التي سجلها أثناء ثورة مصر ونُشرت بعد استشهاده)
وتنظيم القاعدة الذي آمن بخيار القوة كوسيلة فاعلة في مجابهة واقع فُرض أيضا بالقوة، لم يكفر بخيار العمل السلمي، الذي اختارته بعض شعوب المنطقة العربية في ثورتها، بل تحدث التنظيم عنه بإكبار في ثورة شعب سوريا.
"سلام على الأشاوس الأحرار والشجعان الأشراف في درعا وجسر الشغور ومعرة النعمان وبني ياس وحمص وحماة البطولة والاستشهاد. سلام عليكم حيث كنتم في كل شبر من شام الرباط والجهاد تتصدون بصدوركم العارية لقذائف الدبابات وطلقات المدفعية والحوامات". (الدكتور أيمن الظواهري في تسجيل مرئي يتحدث عن الثورة في سوريا).
يضيف الظواهري: "إخواننا وأهلنا في شام الرباط والجهاد، يعلم الله أنه لولا الحرب المستعرة التي نشتبك فيها مع الصليبية المعاصرة، ولولا السدود والحدود التي رسمها سايكس وبيكو، ثم قدسها حكامنا، لولا ذلك لكنت وإخواني اليوم بينكم ووسطكم نذود عنكم بنحورنا وندفع عنكم بصدورنا".
كما أسلفنا، لم تختلف مواقف فروع التنظيم من ثورات العربي في البلدان التي اندلعت فيها، ولم يتأن التنظيم ليعرف ما إذا كانت الثورات في صالحه أم لا، فهي من حيث المبدأ ثورة ضد الظلم.
"نحن نؤيد كل تحرك ضد الظلم بأي شكل كان, أما حديث المحللين فهو مغالطة للحقائق بل رؤيتنا من قبل كانت ولا زالت هي ما ينادي به الناس في ساحات التغيير وهو إسقاط هذه الأنظمة حتى ولو بالسلاح كما حدث في ليبيا". (فهد القصع القيادي اليمني في التنظيم والمطلوب الثالث على اللائحة الأمريكية).
الربيع العربي كارثة استخباراتية بالنسبة لأمريكا والغرب
في الجانب الآخر كانت الولايات المتحدة الأمريكية قلقة كثيرا من هذه الثورات، فكثير من أمورها في المنطقة العربية مرتبط بتلك الأنظمة التي خرجت الشعوب لإسقاطها.
إن التجاوب مع هذه الثورات، بالنسبة لها، يجب أن يتم بحذر شديد، بما لا يتعارض وحفاظها على مصالحها في المنطقة أولا، وبما لا يحرجها أمام ما تتغنى به من شعارات في جانب الحقوق والحريات ثانيا، وهذا، كما أسلفنا، يحتاج إلى وقت قد يتجاوز ما بقى من عمر الزعماء وأنظمتهم وكذا من عمر صبر الشعوب، لهذا ستتركز المهمة الأمريكية القادمة على إطالة عمر هذه الأنظمة بقدر يتيح لها الترتيب لإستراتيجية جديدة في التعامل مع هذا الواقع الجديد.
ويبدو أن هذا ما بات يحدث وبشكل حرفي، فواقع الثورات الجديد اليوم هو واقع أمريكي أكثر منه واقعا ثوريا عربيا، لكن السيطرة الغربية على واقع ما بعد الثورات العربية بالشكل الذي كانت عليه قبل الثورات، أمر يبدو أنه في غاية الصعوبة، بعد أن آل أمر بلدان الثورات إلى شعوبها.
غير أن ما يزعج أمريكا أكثر في كل ما يحدث هو أمر تنظيم القاعدة، الذي قد يستغل الحالة الأمنية التي أفرزتها الثورات العربية لتعزيز وجوده، كما أن سقوط أنظمة حليفة في الحرب الأمريكية على التنظيم، من شأنه أن يعقد مهمة الحرب على الإرهاب أكثر، كون تلك الأنظمة على علاقة بحصيلة عشر سنين من معلومات الحرب التي خاضتها هذه الأنظمة إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية ضد تنظيم القاعدة.
"إن المساعدة التي كنا نحصل عليها من المخابرات المصرية والتونسية قلّت، لكنها جفت تماماً من الليبيين واللبنانيين، إما بسبب الاستياء من حكوماتنا لطعنها قادتهم في الظهر، أو بسبب توقف مسئولين بهذه الأجهزة عن التعاون خوفاً من السجن أو ما هو أسوأ".. ( مايكل شوير الرئيس السابق لوحدة أسامة بن لادن في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) 2011-08-29م).
يضيف شوير: "إن العمل الذي آل إلى أجهزة الاستخبارات البريطانية والأمريكية نتيجة ذلك هائل، والنتيجة هي العمى في قدرتنا على مشاهدة ما يحدث بين أوساط المتشددين، وصار الربيع العربي كارثة استخباراتية لأجهزة الأمن الأمريكية والبريطانية والأوروبية".
وفي ظل هذه الأزمة يرى شوير أن برنامج الترحيل القسري للمشتبهين بالإرهاب يجب أن يعود، "لأن الناس الذين نحتجزهم يمكن أن يقدموا الكثير من المعلومات المفيدة في عمليات الاستجواب" حد قوله.
إن المصلحة هي سيد الموقف إذن، وصاحبة القرار بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، ومن نافذتها فقط ترى العالم العربي، وعلى ضوئها تتعامل مع أحداثه، ويظهر ذلك جليا من خلال تعاملها مع ثورات الربيع العربي.
ومع أنه لم يعد من صالح أمريكا بقاء أنظمة الحكم في العالم العربي في ظل الثورات الشعبية القائمة، إلا أن رحيلها بالشكل الذي تريده الشعوب ليس من صالحها أيضا، إن على تلك الأنظمة أن ترحل بالشكل الذي تريده أمريكا، لكن هذا الشكل لم تتحدد معالمه بعد، فهو مرتبط بالترتيب لمرحلة ما بعد الثورات، المرحلة التي لا يجب أن يتأثر فيها الحضور الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة.
إن من السهل على الولايات المتحدة الأمريكية التخلص من زعماء وضعتهم على رأس أنظمة صنعتها هي وظلت تدعمها لعقود، رغم كل ما قدموه لها، خصوصا في مجال الحرب على تنظيم القاعدة، لكن هل هو صعب أن تحصل على آخرين يقومون بذات الدور في مرحلة ما بعد الثورات؟!. ربما تقود حالة الاستعصاء الثوري إلى إبرام وعود من هذا النوع لأمريكا، كوعود القيادي اليمني المعارض عبد الرحمن با فضل الذي قال إن على الحكومة القادمة أن تفتح الأجواء اليمنية لطائرات أمريكا وفرنسا لتحارب القاعدة بالشكل الذي تريده، لكن يبقى أمر الوفاء بمثل هذه الوعود خاضعا لظروف المرحلة التالية.
"أيا كان رأيكم في القذافي وموسى كوسا، لقد كانـا شريكين جـيدين في مكافحـة الإرهـاب".. ( المديـر السابـق لوكالـة الاستخبـارات المركزيـة الأمريكيـة (سي آي إيه) مايكل هايدن).
ويرى هايدن أن الأحداث في ليبيا وسوريا "ستجعل المعركة (ضد الإرهاب) في المستقبل القريب أصعب بكثير".
العمى الاستخباراتي الأمريكي
لقد انسحبت أمريكا من المشاركة العسكرية في عمليات النيتو ضد نظام العقيد معمر القذافي بعد أن رُفعت إليها تقرير، من قبل أجهزة مخابرات تابعة لأنظمة في المنطقة العربية متعاونة مع القذافي، تتحدث عن وجود لعناصر من تنظيم القاعدة في صفوف ثوار ليبيا.
كانت مخاوف من هذا القبيل سببا في تأخير الموافقة الأمريكية على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص الحظر الجوي على ليبيا أيضا، رغم المجزرة الكبيرة التي ارتكبتها قوات العقيد معمر القذافي في مدينة أجدابيا والمجزرة التي كانت ستكون أكبر في بن غازي.
ومما لا شك فيه أن وقوع كمية كبيرة من الأسلحة في أيدي ثوار ليبيا الذين لا تعرف أمريكا من أية خلفية فكرية قدموا، قـد يسبب لهـا مشاكـل كبيرة في المستقبـل.
لقد أرسلت الإدارة الأمريـكيـة "مبعوثها كيرتز ستفينز إلى بنغازي، معقل المعارضة الليبية، من أجل جمع معلومات عن مواقف المعارضة وشخصيتها وسط تقارير تتحدث عن وجود 5 قيادات ميدانية من الإسلاميين ومئات من المقاتلين الإسلاميين في صفوف المعارضة إضافة إلى أعداد أخرى تراقب العمليات".
إن تراجع عمليات النيتو ضد قوات نظام القذافي، في بعض مراحل الثورة، كان سببه عدم حصول الولايات المتحدة الأمريكية على معلومات كافية حول ما أثير عن وجود بعض عناصر التنظيم ضمن شباب ثورة ليبيا، رغم وعود المجلس الانتقالي الليبي بدحض ما تضمنته تلك التقارير، أما التقارير التي كانت ترفع إلى الإدارة الأمريكية حول هذه القضية فكان مصدرها نظام العقيد القذافي وأنظمة أخرى قلقة من المصير ذاته أو لها مصلحة في بقاء نظام القذافي.
"كانت الجزائر سباقة إلى القول بأن تنظيم القاعدة استولى على أسلحة ثقيلة من ليبيا وهربتها إلى تشاد ثم مالي فالنيجر". (وكالة الصحافة الفرنسية).
وفي حديثه لصحيفة "جون أفريك" ذكر الرئيس التشادي أن القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي استغلت ظروف الانتفاضة الحاصلة في ليبيا للاستحواذ على الأسلحة والعتاد. وقال إن عناصر القاعدة "استغلوا حالة الانفلات والنهب الحاصل بمناطق التمرد للتزود بالسلاح بما فيها صورايخ أرض – جو والانتقال بهذا السلاح إلى معاقلهم بمنطقة تنيري شمال النيجر".
كان الغرض من تلك التقارير التأثير على الموقف الغربي، والأمريكي تحديدا، من ثورة شباب ليبيا، ولا يبدو أن أجهزة المخابرات التي كتبت تلك التقارير ورفعتها إلى الإدارة الأمريكية كانت تمتلك وثائق تثبت ذلك أو كانت تعلم أن ذلك حاصل بالفعل، بدليل أن أمريكا أرسلت مبعوثين إلى بن غازي للتأكد من صحة ما رُفع إليها، لكن تصريحات لبعض المحسوبين على تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي أكدت حصول الجماعة على أسلحة خلال ثورة ليبيا.
من المهم التنبيه هنا على أن تصريحات قاعدة المغرب الإسلامي جاءت بعد سقوط نظام العقيد القذافي، أما خلال الثورة فقد التزمت الصمت، بل وحرصت على نفي أخبار كانت تتناقلها بعض وسائل الإعلام تتحدث عن وجود مقاتلي القاعدة ضمن الثوار، خشية أن يوثر ذلك سلبا على الثورة.
من كل ما تقدم يتضح جليا العمى الاستخبارتي الذي تعيشه الإدارة الأمريكية والذي تحدث عنه مايكل شوير.
الإخوان المسلمون ومهمة إنقاذ أمريكا وإسرائيل من ثورات الربيع العربي
بإمكان الولايات المتحدة الأمريكية أن تتحمل خسارة عقد من الحرب على تنظيم القاعدة بوقوفها إلى جانب ثورات الربيع العربي، لكنها غير مستعدة لاستقبال مرحلة لا تحقق فيها نجاحات كبيرة على هذا الصعيد، فبمقابل الأمر الواقع الذي فرضه عليها وضع الثورات الشعبية العربية، لا بد أن تفرض هي أمرا واقعا على مرحلة ما بعد هذه الثورات، وعبر جهات في الداخل تلتقي بها في أرضية مشتركة من المصالح، على أن تكون هذه الجهات من ذوات الثقل داخل المجتمع، طمعا في تأثيرها المحلي، ولن تقوم بهذا الدور سوى جهات إسلامية برجماتية تعطي للمصالح من الأهمية ما لا تعطيه للمبادئ التي تؤمن بها، ولهذا السبب صارت الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة للتعاون مع الإخوان المسلمين وغيرهم ممن يوصفون بالاعتدال إذا وصلوا إلى الحكم عبر الانتخابات بعد الربيع العربي، بحسب وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون التي قالت إن ما تقوم به هذه الأحزاب أكثر أهمية من الأسماء التي تطلقها على نفسها.
وبطبيعة الحال فإن هيلاري كلينتون كانت تشير هنا إلى الجماعات الإسلامية التي توصف بأنها معتدلة، ولم تكن تقصد التذكير بكلام يحيى بدر الدين الحوثي، الذي أكد أن شعار "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل" الذي ترفعه جماعة الحوثي، هو مجرد كلام، بدليل أن أمريكا وإسرائيل لازالتا بخير، حد تعبيره.
لقد حددت كلينتون بوضح مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط: "ضمان تدفق إمدادات الطاقة، وضمان أمن حلفاء واشنطن، والحرب على تنظيم القاعدة".
وبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، بحسب ما يمكن أن يُفهم من كلام وزيرة الخارجية، فإن ضرورة الحفاظ على مصالحها في المنطقة وعلى أمن إسرائيل، تساوي ضرورة القضاء على تنظيم القاعدة، في ميزانها، لأن العكس سيعني العكس تماما: تنامي القاعدة يعني تهديد مصالح أمريكا في المنطقة العربية وتهديد الوجود الإسرائيلي في فلسطين.
هكذا بدت السيدة هيلاري كلينتون كما لو أنها أكثر صدقا من السيد محمد قحطان، أو يمكننا القول إنها كانت أكثر واقعية ونضجا في التعاطي مع الأحداث الراهنة في المنطقة العربية، فمصالح أمريكا هي ميزانها في التعامل مع كل شيء وليس مبادئها.
"لدي يقين بأن ثورات الربيع العربي قد غيرت كثيرا من المفاهيم التي كانت سائدة في الفترات الماضية؛ فقد شاهد ملايين الشباب العربي والمسلم كيف أن أنظمتهم تتجه لقتلهم في الوقت الذي كان فيه الصوت الغربي أقوى الأصوات التي ارتفعت للمطالبة بحماية الدم العربي والمسلم من تسلط وجبروت أبناء جلدتهم، كما كان للضغوط الغربية الدور الأساس في إنجاح الثورات العربية. أنا متأكد من تشكل ثقافة جديدة ستنشأ فيها الأجيال الجديدة بنظرة مختلفة للغرب عما كان سائدا لدى الأجيال التي عايشت الاستعمار أو الأجيال التي تربت على يد الأجيال التي عايشت الاستعمار، وعانت من ويلاته خلال القرنين الماضيين".. (الناطق باسم المعارضة اليمنية والقيادي الإخواني البارز محمد قحطان في حوار مع جريدة الشرق الأوسـط).
مغازلة الغرب بإسلام معتدل قد يلعب دورا مهما في مواجهة ما تراه أمريكا إسلاما متطرفا، هو ما تقوم به أيضا جماعة الإخوان المسلمين، ذات الحضور الفاعل في ثورات الربيع العربي، والتي تأمل من خلال ذلك أن تكون البديل للأنظمة الديكتاتورية في الوطن العربي، وستحاول أن تقابل تشدد مواقف الجماعات الإسلامية الأخرى من الغرب، وحتى من إسرائيل، بمواقف أكثر مرونة في تعاملها، لاسيما في هذه المرحلة. هناك الآن دفع غير عادي من قبل الإخوان المسلمين في اليمن باتجاه إثبات أن قاعدة اليمن هم عبارة عن مجموعة من المرتزقة الذين جندهم صالح لغرض الضغط على الغرب، وأنهم سبب عرقلة الثورة.
في الوقت الذي كان فيه إسلاميو ليبيا يقاتلون القذافي إلى جانب قوات حلف شمال الأطلسي، كان جيش يمني محسوب على الثورة يقاتل تنظيم القاعدة إلى جانب طائرات الولايات المتحدة الأمريكية في محافظة أبين، وحينما تحقق لهم ما يشبه النصر الهش والمؤقت، سارعت المعارضة اليمنية، ومعظمها من الإخوان المسلمين، إلى تهنئة سفارة أمريكا في صنعاء بذلك النصر، مع فارق أن ثوار ليبيا قبلوا بالتدخل الغربي تحت ضغط ظروف صعبة جدا يعرفها الجميع، والمهم في الأمر هو أن هناك تحالفا مشبوها نشأ في ظل ربيع الثورات العربية طرفاه أمريكا والإخوان المسلمون.
"إن الموقف من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا كان له تأثير كبير على الغالبية العظمى من المسلمين، لكن وبشكل عام هناك الآن شعور جيد وإيجابي تجاه الغرب، وليس الشعور السلبي كما كان سابقا". (علي الصلابي أحد كبار قادة الحركة الإسلامية في ليبيا وعضو هيئة علماء المسلمين).
الصلابي أكد في أكثر من مناسبة، خلال الحوار الذي أجرته معه صحيفة "ديلي تليغراف" البريطانية، أن الحزب الإسلامي الذي ينوي تشكيله سيكون على غرار حزب العدالة في تركيا وحزب النهضة في تونس، وهما حزبان يتبنيان ما يُعرف بالإسلام المعتدل ومقبولان غربيا.
"إن الاعتراف الأمريكي الغربي بالإخوان المسلمين لم يأت قبولاً بحق لهم ولا إعجاباً ولا حكمة، لكنه جاء قبولاً بنصيحة عدد من المستشرقين لتوظيف ذلك في تأجيج فتنة في الإسلام لصالح آخرين، مضيفاً بأن نشوة الإخوان المسلمين بالاعتراف الأمريكي الغربي بشرعيتهم لم تعطهم فرصة كافية لدراسة دواعي الاعتراف بعد نشوة الاعتراف". (محمد حسنين هيكل في حـوار مع صحيفة الأهرام المصرية).
مأرب برس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق