ميشيل كيلو: قبل أشهر قليلة كان يرغي ويزبد شاتماً شعب تونس، لأنه طرد ابن علي من السلطة . كان “الأخ العقيد” واثقاً كل الثقة من أنه لن يلقى مصير حاكم البلد المجاور، لذلك عنّف التونسيين على طريقته، وأفهمهم أنه كان عليهم جعل ابن علي رئيساً مدى الحياة، لأنهم لن يجدوا أحداً خيراً منه، مهما بحثوا .
لم يكن الأخ العقيد يعتقد أنه سيلاقي مصير صديقه الحميم . يبدو أنه لا يصدق اليوم أيضاً أنه يمشي على الطريق الذي يأخذ إلى خارج الحكم، ربما لأنه يؤمن حقاً أن معه ملايين الليبيين، وأنه يتعرض لمؤامرة نسجت خيوطها بإحكام أمريكا وأوروبا وتنظيم “القاعدة”!، وأن شعب”ه” سيهب إلى نجدته، إن كان مهدداً أصلاً، وأنه لن يرتضي له في الوجود بديلاً، لأنه هو حريته وكرامته، وهو الذي أوصله إلى القمة، كما كرر في أكثر من خطاب، وإن كان قد اعترف أيضاً بتسلل بعض “الجرذان والمقملين” إلى ليبيا، حيث سيقضي وشعبها عليهم زنقة زنقة، دار دار، بيت بيت، شارع شارع، فرد فرد، كما قال متوعداً وواثقاً من نفسه .
لم يكن الأخ العقيد يعتقد أنه سيلاقي مصير صديقه الحميم . يبدو أنه لا يصدق اليوم أيضاً أنه يمشي على الطريق الذي يأخذ إلى خارج الحكم، ربما لأنه يؤمن حقاً أن معه ملايين الليبيين، وأنه يتعرض لمؤامرة نسجت خيوطها بإحكام أمريكا وأوروبا وتنظيم “القاعدة”!، وأن شعب”ه” سيهب إلى نجدته، إن كان مهدداً أصلاً، وأنه لن يرتضي له في الوجود بديلاً، لأنه هو حريته وكرامته، وهو الذي أوصله إلى القمة، كما كرر في أكثر من خطاب، وإن كان قد اعترف أيضاً بتسلل بعض “الجرذان والمقملين” إلى ليبيا، حيث سيقضي وشعبها عليهم زنقة زنقة، دار دار، بيت بيت، شارع شارع، فرد فرد، كما قال متوعداً وواثقاً من نفسه .
بنى القذافي وهم بقائه الأبدي في السلطة على أوهام ثلاثة رئيسة هي:
ـ أن الغرب عامة وأمريكا و”إسرائيل” خاصة لن تتخلى عنه لأنه يقاوم الإرهاب ويصفي الإسلاميين عامة وتنظيم القاعدة خاصة، ممتصاً عنهم في ليبيا ذاتها الخطر الذي قد يهدد بلدانهم وشعوبهم، ومقاتلاً بالنيابة عنهم خصماً أنزل بهم أذى شديداً أكثر من مرة .
ـ أن نفط ليبيا ومالها يذهبان إلى بلدان الغرب، التي يحميها من هجرة الأفارقة وعرب شمال إفريقيا، باستقدام الملايين من هؤلاء وأولئك إلى ليبيا وإبقائهم داخلها .
ـ أنه لم يترك بديلاً محتملاً له في ليبيا، فهو إذن خيار إجباري لا مناص منه لأي طرف يهتم بشؤونها، وهو لا يرى مجالاً لأي تغيير في الموقف الدولي أو الداخلي حياله، فلماذا لا يتحدث من موقع من سيتخطى أزمة التغيير العربي الراهنة، ولماذا لا يشتم الشعب التونسي ويعنفه ويطالبه بإعادة صديقه ابن علي إلى سدة الرئاسة؟
هذه الأوهام الثلاثة تجمعت في وهم كبير، تبين أنه قاتل، زين له أن أبدية حكمه ليست موضع شك أو تحد من أي جهة خارجية أو داخلية كانت، وأقنعه أن حكمه ليس هشاً، لأنه وأولاده يمسكون بكل شيء: من التنظير السياسي إلى المتابعات الأمنية، ومن الاقتصاد إلى الجيش، ومن السماء إلى الأرض، ومن البر إلى البحر، ومن الحجر إلى البشر، فمن الذي سيتحداهم أو سيخرج عليهم؟ ومن الذي سيتمكن من بناء بديل لهم في ظل الشمولية المطلقة، التامة والعامة، التي يفرضونها على البلاد والعباد، وتتيح لهم خنق الأنفاس في صدور الناس؟ كان الرجل يجلس آمناً مطمئناً، ويعتقد أن وضعه هو الثابت الوحيد في عالم عربي تنهار أركانه، وأنه كان عميد الساسة العرب الحاليين، وسيكون عميد ساسة العرب والعالم القادمين، فهو في السلطة منذ 42 عاماً، وسيبقى متربعاً على كرسيها ما دام فيه عرق ينبض، وليحدث ما يحدث للغير، إنه هو سيبقى بمعزل عن الحدثان، لأنه أكثر رسوخاً وثباتاً من أي شيء آخر في دنيا العرب .
عندما أعلن “الأخ العقيد” بعد 17 فبراير/ شباط ووقوع بوادر الثورة الأولى في بنغازي ضده، أنه لم يستخدم القوة بعد، خلنا أنه يمزح، لأنه بلا قوة، قياساً على أداء جيشه في تشاد مطالع الثمانينات . لكنه تبين أنه لم يكن يمزح، وأنه قوي، بل وقوي جداً، وأن جيشه مخلص له ومستعد للموت في سبيله، حتى أنه يواصل إلى اليوم القتال من أجل قضية صارت خسارتها مؤكدة، رغم ثمانية آلاف غارة جوية شنها عليه طيران الأمريكيين والأطلسيين، وفقد طيرانه وصواريخ دفاعه الجوي وأكثر من نصف دباباته ومدافعه، وغادره قسم كبير من ضباطه، كان آخرهم مئة بينهم تسعة جنرالات، وقسم أكبر من السياسيين الذين كانوا طوع بنانه .
أثبت الرجل أن نظامه قوي ومصمم على القتال حتى الرمق الأخير، مذكراً البشرية بموقف هتلر، الزعيم النازي الذي اعتقد أنه قادر على قهر العالم، وأن جيشه سيفتح القارة الأوروبية وجزءاً واسعاً من آسيا، قبل أن يغزو أمريكا ويحتلها بدورها . وحين فشل وبدأ ينهار خلال سنوات خاض خلالها أكثر المعارك شراسة وحقق انتصارات باهرة، غير أنها لم تمنع هزيمته في النهاية، علق آماله على عناده من جهة، وعلى مفاجأة إنقاذية ما ستقع في صفوف أعدائه من جهة أخرى، فكانت النتيجة الوحيدة التي ترتبت على أوهامه ارتفاع الثمن العملي الباهظ جداً الذي دفعه شعبه . واليوم، يكرر القائد الليبي المأساة عينها، ويتسبب في خراب شامل ينزل بوطنه، بحجة الدفاع عن استقلاله وحمايته وشرعية حكمه، ويرفض استخلاص النتائج من تطورات الشهر الأخير، الذي فقد خلاله المبادرة العسكرية، وشرعيته الشعبية والسياسية، وتعرض لقطيعة وصلت في الأيام الأخيرة إلى حد جعل أصدقائه الروس والصينيين يطالبونه بضرورة التخلي عن السلطة ومغادرة ليبيا، وتقلص وجوده في مدن وأرياف بلده، وخسر معاركه الحربية والسلمية جميعها، وغادره كبار الساسة ممن أخلصوا له وبقوا بجانبه، وبدأ جيشه يتفكك بالفعل تحت ضربات موجعة تطاول العاصمة طرابلس وتصيب مقار ومراكز أجهزته الأمنية والإدارية ووزاراته، في عمل من الجلي أنه يستهدف القضاء على السلطة التي تسانده أو ظلت وفية له، وعليه هو أيضاً، وأنه إذا لم يغادر ليبيا بقوة الثورة فسيغادرها تحت وابل من قنابل الطائرات وصواريخها، وأن الأمر حسم لغير صالحه، والتسوية معه غدت مستحيلة، فليس له غير تخفيف آلام شعبه ومبارحة أوهامه وحساباته الخاطئة، والاستسلام لقدره الذي تسبب هو نفسه فيه، عندما أقام نظاماً لا يتسع لغيره، وتخيل أن من خدم الغرب سيبقى محل ثقته وحمايته، وأن موجة التغيير الراهنة ستمر عليه برفق، إن هو تمسك بالنظام الذي استهدفته في أمكنة أخرى، وتشدد في الدفاع عنه عوض إصلاحه والعمل على تطويره وجعله نظام شراكة مفتوحاً على رغبات الشعب ومطالبه، بعد أربعين عاماً من الكبت والإقصاء والانفراد بالقرار .
آمن الأخ العقيد باستحالة التغيير في بلده، فجاء التغيير يؤكد استحالة حكمه . واليوم، وهو يوشك على السقوط، بعد أن رفعت عنه جميع الأغطية الخارجية والداخلية التي كانت تحميه، لا بد أن يكون مصيره عبرة لكل من يظن واهماً أنه يكفي قهر الناس لبقائه في كرسيه إلى الأبد، وأن ما كان أجدادنا العرب يقولونه حول “العدل كأساس للملك”، ليس صحيحاً، وأن القوة وحدها تكفي لدوام الحكم، حتى إن كان معادياً للحق وموجهاً ضد المطالبين به .
لم يعد القذافي ذلك الحاكم الذي أطل علينا قبل نصف عام معنفاً ومقرعاً ثوار تونس، وإنما غدا رجلاً متوحداً ومطارداً، هارباً ومختبئاً في “مكان لن يعرفه أحد”، كما قال هو نفسه بعد الغارة التي أودت بحياة نجله وبعض أفراد أسرته في باب العزيزية . لقد تحول إلى شبح من الماضي ينتظر قنبلة تقضي عليه أو ثائراً يرديه . فهل يتعظ جبابرة القوة بمصيره، ويسارعون، حيث تثور شعوبهم عليهم، إلى تأمل ما حدث له، واستخلاص النتائج الضرورية لنجاتهم، وأهمها قاطبة ملاقاة مواطنيهم في منتصف الطريق، والنزول عند رغباتهم ومطالبهم، في زمن لا قوة تسمو فيه على قوة الحق والمنطق، والإقرار بأن التغيير لن يتوقف عند أحد، وأن من لا يغير سيغير، طال الزمن أم قصر .
المصدر: الخليج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق