الاثنين، 9 مايو 2011

ثورة ليبيا بين القمح الروسي والأسواق الافريقية والمزاجية الفرنسية «الغامضة»

هـل أغضـب القذافـي مصـرف «بي ان بي»؟
مازن السيد: لم يذكر التاريخ الحديث، تجارب «ثورية» قام فيها صناعها في المراحل الأولى من نشاطهم، بإعلان مصرف مركزي بديل عن المؤسسة النظامية. لكنّ السابقة المالية - الثورية أتت هذه المرة...من بنغازي!


ويشوب كثير من التساؤلات، مسار المجريات الليبية الأخيرة: البعض يتحدث عن النفط، والآخر عن «الشرق الأوسط الأميركي الجديد»، مقابل من يصرّ على مقاربة الحالة الليبية انطلاقاً من التجربتين التونسية أو المصرية. لكن طائفة المحللين تستمر في تجاهلها، المتعمّد أو العفوي، لدور الامبراطورية العالمية التي أثبتت للمتابع في العقد الأخير، على أقل تقدير، أنها أوسع سلطة وأشد سطوة من أميركا أو أي دولة أخرى: امبراطورية المال والمصارف.

وإذا نظرنا، على سبيل البحث الموضوعي لا التبخيس بالثورات، إلى امتدادات هذه المنظومة في ليبيا، نجد أنفسنا أمام مشهد بطله بلا منازع مصرف «بي ان بي باريبا» (BNP PARIBAS)الفرنسي، ما يشدّ انتباه المدرك لدور باريس في الأحداث الليبية.

«بي ان بي» يتوه في «صحارى» ليبيا
في تموز 2007، كان النظام الليبي مع صعود نجم سيف الإسلام القذافي، يستغلّ قضية الممرضات البلغاريات السبع اللواتي كنّ مسؤولات عن إصابة 438 طفلاً ليبيا بفيروس الإيدز، ليتقدّم خطوة في مسار «عودة الإبن الضالّ» إلى كنف «المجتمع الدولي» من بوابته الضرورية: الخصخصة. وكان مصرف «بي ان بي» الفرنسي، أبرز الرابحين من هذه المقايضة، بحصوله على حصة 19 في المئة من مصرف «صحارى الليبي» مقابل 145 مليون يورو، لتبقى حصة 48 في المئة مملوكة للصندوق الاقتصادي والاجتماعي الليبي، وحصة 33 في المئة للمصرف المركزي الليبي.

ويتمتع مصرف «صحارى» بشبكة من 48 وكالة، ويشغل 1500 موظف، ويرتفع عدد زبائنه إلى 300 ألف، بينهم شركات كبرى، خاصة وعامة، ليبية وأجنبية.

وإذا بدت نسبة 19 في المئة، نحيلة للبعض، جدير بالذكر أن الصفقة تضمنت سيطرة «بي ان بي» على إدارة المصرف، ليصبح «صحارى»، أول مصرف ليبي يخصخص، جزءاً من «مجموعة بي ان بي»، إضافة إلى بند بالغ الأهمية يمنح المصرف الفرنسي إمكانية رفع مستوى حصته إلى 51 في المئة انطلاقاً من آخر العام 2010، على أن يكون سعر الحصة الإضافية (32 في المئة) ثابتاً على قاعدة السعر المدفوع في العام 2007، وتضاف إليه نسبة فائدة محددة مسبقاً. لكنّ اواخر العام 2010 حملت للمصرف الفرنسي العملاق، أحداثاً غير متوقعة...

في تشرين الثاني 2010، قام حاكم المصرف المركزي الليبي فرحات بن قدارة، بإحالة تحقيق في سلوكيات «مريبة» من جانب إدارة مصرف «صحارى». وتتعلق هذه السلوكيات بمنح تسهيلات مصرفية بقيمة «عشرات ملايين الدنانير الليبية» (اليورو كان يساوي حينها حوالى 1.72 ديناراً)، لزبائن لا يتمتعون بالضمانات الكافية، من غير أن يعلن عن أسماء الزبائن. وفيما أكد بن قدارة أن المصرف المركزي لا يتحمل أية مسؤولية عن هذه الممارسات غير القانونية، أشار رجل النظام إلى مسؤولية «الشريك الأجنبي»، أي «بي ان بي»، الذي يدير «صحارى».

هذه القضية القانونية، اندلعت على خلفية تراجع ملحوظ لأداء «صحارى»، الذي انخفضت أرباحه الصافية في نهاية العام 2009 بنسبة الثلثين مقارنة بالعام 2008، من 56,277 مليون دينار، إلى 20,42 مليون دينار، ما أدى إلى انخفاض قيمة سهمه إلى أقل من النصف (من 1,5 دينار، إلى 600 درهم). وخلال الاجتماع الاستثنائي للجمعية العمومية للمصرف، في منتصف تشرين الأول 2010، حمّل رئيس الجمعية حامد الحضيري «الشريك» الفرنسي الذي «لا يطبق قرارات مجلس الإدارة، وقواعد المصرف المركزي» مسؤولية التراجع. كما نقلت صحيفة «قورينا» الليبية في الوقت نفسه، عن أحد اعضاء الجمعية العمومية مطالبته المصرف المركزي بإنهاء التعامل مع «بي ان بي»، على أنه «غير مرغوب فيه».

لكنه من غير المرجح أن تكون هذه النزعة المضادة لـ«الشريك الأجنبي» مجرد نتيجة لتراجع أداء «صحارى»، فقد ذكرت صحيفة «الوطن» الليبية في تشرين الثاني 2010 أيضاً، أن الحكومة الليبية تنظر في إنهاء مساهمة الاجانب في القطاع المصرفي الليبي تماماً! وبالفعل لم تكن إلا أيام قليلة، حتى خرج الأمين العام للجان الشعبية (رئيس الحكومة) البغدادي المحمودي، إلى الإعلام، معلناً أن «ليبيا ليست بحاجة لرؤوس أموال بل إلى خبرات متخصصة ودعم تكنولوجي»، ومؤكدا أن السلطات تمتلك النية بالعودة عن «سياسة الشراكة في القطاع المصرفي». ما يعني أن عملية تملك «بي ان بي» لحصة الـ32 في المئة الإضافية من «صحارى» ستتوقف، لتنتهي سعادة «صندوق النقد الدولي» الذي هنّأ نفسه في تقريره لتشرين الاول 2010، بأنه «لم يعد هناك في ليبيا أي مصرف مملوك للدولة بنسبة 100 في المئة»!

أين اختفى القمح؟
في هذا الشهر نفسه، تحول «بي ان بي» إلى أكبر مصرف في العالم لجهة حجم الأصول التي يمتلكها، والمقدرة بـ2240 مليار يورو أي ما يفوق الناتج المحلي الفرنسي للعام 2010، والمقدر بـ 2146 مليار يورو، ما يحمل إشارة قوية إلى السلطة السياسية التي قد تمتلكها إدارة المصرف الفرنسي العملاق، في الوقت الذي تعاني فيه اوروبا من ضيق اقتصادي واضح للجميع. لكن رأسمال «بي ان بي» يبقى معرضاً لخطورة كبرى، لكونه مساهماً في الديون الأوروبية بنسبة تصل إلى أكثر من 45 في المئة، إذا أخذنا في الاعتبار ديون اليونان والبرتغال واسبانيا وبلجيكا.

إذن، يحتاج المصرف الفرنسي إلى التواجد في السوق الافريقية بكل ما تحمله من اقتصاديات جديدة الانفتاح، وحديثة الانصياع لقواعد «صندوق النقد الدولي»، و«بنك التسويات الدولية».

ثمّ، وفي كانون الأول 2010، تلقى «بي ان بي» ضربة جديدة في السوق الافريقية. وتفيد صحيفة الـ«كانار انشينيه» الفرنسية، بأن أحد فروع المصرف الفرنسي في سويسرا خسر 60 مليون يورو، بعد «اختفاء» 350 ألف طن من القمح الروسي المتوجّه إلى... مصر وتونس.

وتؤكد الصحيفة الفرنسية أنه «لتمويل شحنة قمح بقيمة 76 مليون يورو، قامت شركة رياس الروسية بطلب قرض من «بي ان بي» الذي وافق على الطلب». لكن، وبعد تسلّم القرض «اعلن الروس اختفاء شحنة القمح». وتؤكد صحيفة «لو تان» السويسرية أن «بي ان بي» لن يتمكن من استعادة القرض، لأن «رياس» الروسية، بدأت بإجراءات إعلان إفلاسها... وتوالت الضربات الموجهة إلى «بي ان بي» في افريقيا، إذ اعلن رئيس ساحل العاج المنتهية ولايته حينها لوران غباغبو في 17 شباط الماضي، أي في يوم انطلاق «الثورة الليبية»، تأميم فرع «بي ان بي» في ساحل العاج، حيث لعبت فرنسا دوراً أساسياً في نيسان الحالي في الإطاحة بغباغبو.

«الثورة»... والمصارف المركزية؟
هكذا، يتضح موقع الخاسر الكبير لمصرف «بي ان بي» الفرنسي، الذي يديره صديق نيكولا ساركوزي ميشال بيبرو، ضمن ديناميكية «انقلاب» السلطة الليبية على سياستها السابقة بـ«الانفتاح» الاقتصادي والمالي. على ضوء هذا الموقع، يمكن العودة إلى قراءة إعلان «ثوار ليبيا» في 19 آذار الماضي «تعيين مصرف بنغازي المركزي كمرجعية في شؤون ليبيا المالية، وتعيين محافظ جديد لمصرف ليبيا المركزي، بمقر موقت في بنغازي». ويكتب المحلل الاميركي روبرت وينزل في نشرة «ايكونوميك بوليسي جورنال»: «لم أسمع من قبل بإنشاء مصرف مركزي بعد أسابيع قليلة من اشتعال انتفاضة شعبية، ما يدفعني إلى الاعتقاد بوجود تأثيرات خارجية من النوع الدقيق»، فيما يلمح رئيس تحرير «سي ان بي سي» جون كارني إلى ذلك قائلا «يبدو أن ذلك يشير تماماً إلى السلطة الخارقة التي تتمتع بها المصارف المركزية في عصرنا هذا».

وفيما يمتلك المصرف المركزي الليبي (النظامي) المملوك تماماً من قبل الدولة، 144 طناً من الذهب، تجعله قادراً على التحرر مالياً من نير العبودية للنظام المالي العالمي المتمثل بمؤسسات «صندوق النقد الدولي»، و«مصرف التسويات الدولية»، ننتظر رؤية السياسة المقبلة لمصرف بنغازي «المركزي»، وإذا كان سيمكن الأوروبيين وعلى رأسهم فرنسا، من العودة بقوة إلى الأسواق المالية الليبية، بعدما حققوا ذلك في ساحل العاج، بعد إطاحة غباغبو بدعم عسكري مباشر من القوات الفرنسية.

كلّ هذا لا يعني أن معمر القذافي على حقّ، أو أن الثوار متآمرون، لكنه يشير بوضوح إلى أسباب مزاجية باريس ازاء النظام الليبي، والتي نقلتها من موقع «الشريك الاستراتيجي» الذي يعدّ الاستثمارات في المجال النووي والعسكري بعد غزوه المصرفي، إلى موقع قيادة العملية العسكرية ضد القذافي. كما يطرح تساؤلات حول فهمنا لمحرك الصراعات في القرن الحادي العشرين، الذي يبدو أنه بتميّز، عصر المصرفيين. يبقى أن نعوّل على مقولة المخرج الاميركي اوليفر ستون، الذي أكد أن المؤامرات وحدها لا تصنع التاريخ، «لأن الحوادث غير المتوقعة توازيها»، وعلى مقولة صيدلي ليبي في بنغازي نقلها صحافي مصري: «بعد أن نتخلص من القذافي، سنحرق أعلام فرنسا وأميركا هنا».

المصدر: موقع «بي ان بي»

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق