السبت، 12 مارس 2011

صحافي اسرائيلي يتجول في ليبيا: اذا صورت فستموت.. القذافي كذب والكذب حقيقة

غشي غيم من الغبار الاصفر طرابلس أول أمس. فالعواصف الرملية هنا أمر يتكرر كثيرا والمدينة الصحراوية تعيش داخلها. من كل صوب تطالعك صور ضخمة للقذافي. الزعيم 'القائد'، كما يسمونه هنا في خشوع.
في طريقي الى المطار أقف مع عدة صحافيين آخرين في حي أبو سليم. أُخرج كاميرا وفي خلال دقائق يلتف حولي عشرات من الرجال والاولاد والنساء يرفعون صور القذافي ويهتفون 'الله معمر وليبيا بس'.

هذا هو الشعار اليوم في طرابلس مؤيدي القذافي مثل هتاف النازيين في المانيا بالضبط: 'إله واحد، شعب واحد، فهرر واحد'. هذه خلاصة العقيدة الفاشية في صيغتها العربية ايضا. يلتف الجمهور ويضغط على الصحافيين القلة من كل الاتجاهات، ونتخلص بصعوبة ونفر الى الحافلة الصغيرة التي تنقلنا الى المطار.

أترك الدولة متنفسا الصعداء. بنى القذافي لنفسه في سني حكمه الواحدة والاربعين، وهو القائد الضئيل القامة، أمة كاملة على صورته وشخصه. الجماهير الذين ينساقون وراءه يعيشون في رتابة أصبح العنف فيها من الدفع بالأيدي والصراخ حتى اطلاق النار الحية نهج حياة. وهو يحكم دولته بالتأليف بين غسل الدماغ وعبادة الشخصية والفاشية. لا يؤيد مؤيدوه عقيدته إن وجدت أصلا. انهم يؤيدونه.

الحقيقة الوحيدة هي حقيقة الزعيم. وهم عميان عن كل ما لا يصدر مباشرة عن فمه. وعندما نحاول اجراء حديث مع واحد من مؤيدي 'الزعيم'، يمكن ان نحصل فقط على اجوبة مُحفظة. وهي بالضبط نفس النصوص التي يبثها التلفاز الليبي الذي يسيطر عليه القذافي مرة بعد اخرى. يحرص القذافي في الايام الاخيرة، عالما بقوته السحرية على الجمهور، على الظهور الشخصي الكثير. فهو يثرثر وهم يردون عليه بصرخات الحب.

وما لا يفعله شعر الزعيم المفلفل يفعله المسلحون من قبله. يسيطر القذافي على طرابلس ومدن حولها بخلاف اماكن أبعد مثل بنغازي لانه موجود داخل الميدان وكذلك رجال أمنه. انهم موجودون في كل زاوية وفي كل ركن.

'على حساب الشعب'
بدأت رحلتي الى ليبيا يوم الاثنين قبل عشرة ايام من مالطا. حاولت ركوب احدى العبارات التي خرجت لتخليص عمال اجانب علقوا في ليبيا اثناء الثورة، لكن ناس العبارة رفضوا السماح لي بركوبها. 'ناس القذافي سيطرحونك ويطرحوننا اذا لم تأت برخصة رسمية من السفارة'، قالوا بصرامة.

بيد أنني عندما وصلت السفارة الليبية في فاليتا عاصمة مالطا، خرج السفير وأعلن للمتظاهرين الذين تجمعوا في المكان بأنه ينضم للثوار مع موظفي السفارة كلها. ورفع العلم الليبي القديم من ايام الأسرة المالكة ذي الالوان الاحمر والاسود والاخضر ودخل دخولا دراميا الى الداخل. وبهذا انقضى احتمال أن أحصل على ترخيص.

قال اصدقاء ان السفارة في لندن ما تزال مخلصة للقذافي وأن ثمة احتمالا أن أحصل على تأشيرة دخول لليبيا. طرت الى لندن وبعد حديث قصير الى ملحق اعلام السفارة تبين أن لي حظا. فقد أعلن ابن القذافي سيف الاسلام في ذلك اليوم بالضبط بأن كل صحافي يريد أن يقف على الوضع للتحقق منه ولرؤية مبلغ كذب شبكات تلفاز 'الجزيرة' و'العربية' والـ 'بي.بي.سي' مدعو للمجيء الى ليبيا. قال الملحق: 'سافر الى المطار. ستنقلك شركة الطيران الليبية بلا تأشيرة دخول ايضا' (ومفهوم أنني لم أُجهد نفسي بتبشيره بأنني صحافي اسرائيلي).

كان الملحق صادقا. ففي يوم الجمعة، في ذروة العاصفة الرملية، هبطت قُبيل المساء في طرابلس. ولأنني جئت بلا تأشيرة اضطررت الى أن انتظر ساعات ترهق الاعصاب حتى اتصل في نهاية الامر واحد من أفراد 'سلطة العناية بالاعلام الاجنبي' وأبلغني أن شؤوني تعالج. بعد ذلك بساعات جاء سائق في سيارة رتب الامور في غضون دقائق وهكذا خرجنا آخر الامر من المطار.

في الخروج من المطار ضربتنا موجة قوية من العفن. بل ان المنظر كان أصعب. آلاف الاشخاص من النساء والرجال والاولاد والاطفال يجلسون في الظلام على أمتعتهم في برد الصحراء ويحملقون الى العاصفة الرملية. مهاجرو عمل من مصر وغانا وبنغلاديش وتركيا ودول كثيرة اخرى انتظروا في عجز طائرة ربما تأتي لنقلهم الى بيوتهم. اختلط بكاء الاطفال بصراخ الناس وصيحات رجال الشرطة الذين يحاولون فرض النظام بضرب الهراوات.

في فندق 'ريكسوس' في مركز المدينة استقبلني موظف الاستقبال بحرارة. 'كل شيء على حساب الشعب الليبي'، ابتسم لي. تبين في الغد انه لا توجد وجبات بالمجان. إن الوجه الحبيب لرجال شبكة الاعلام الاجنبي هو القفاز الحريري الذي يلف القفاز الحديدي لاجهزة الأمن الليبية.

عرفت سريعا أنني حر في المضي الى حيث أشاء، لكنني اذا حاولت الوصول الى منطقة حساسة فسيظهر فورا حولي رجال شرطة أو جنود أو مجرد رجال أمن بملابس مدنية يُعيدونني الى المكان الذي جئت منه بغير أدب زائد وفي عنف ظاهر احيانا.

هذا ما حدث عندما بلغت مثلا الميدان الاخضر الذي هو الصيغة الخاصة للقذافي من الميدان الاحمر في الصين، والذي منه يؤجج كل مساء ثورته المضادة. ليس الحديث عن مشهد يشبه ما كان في مصر حيث جاء عدة آلاف من مؤيدي مبارك لمشاجرة المتظاهرين في ميدان التحرير. فهنا في طرابلس يقوم كل مساء عشرات الآلاف من المؤيدين المتحمسين الذين يؤمنون بزعيمهم ايمانا أعمى ويتعلقون بكل كلمة تخرج من فمه.

عندما حاولت تصوير حواجز الشرطة التي تحيط بالميدان، انقض علي رجل أمن وأخذ مني الكاميرا وطلب رؤية وثائقي. وعندما اقتنع أعاد إلي الكاميرا وحدق إلي وقال اربع كلمات 'يو فوتو يو داي'.

اصبع على الكلاشينكوف
أسمع في الليل اصوات اطلاق نار. كان اليوم الذي هبطت فيه في ليبيا يوما صعبا جدا في طرابلس. فقد نشبت أحداث شغب بعد صلاة الجمعة، وفي حيي تاجورا وسوق الجمعة فرق ناس القذافي المظاهرات بالغاز المسيل للدموع وباطلاق نار حي من المروحيات. لم يُسدد الى الجمهور مباشرة بل الى أطرافه. وفي مقابلة ذلك صورت قوات الامن المتظاهرين والآن في الليل يجرون اعتقالات بحسب الصور التي في أيديهم.

قال لي الناس الذين التقيت بهم بعد ذلك في طرابلس إن ناس القذافي يدخلون البيوت ويحققون مع الشباب أو يعتقلونهم. بعد ذلك يختفي اولئك المحقَق معهم ببساطة. كل هذا يحدث في الليل، بعيدا عن عيون الصحافيين وهذا هو سبب اطلاق النار الذي يُسمع من آن لآخر ايضا.

المدينة كلها مليئة بالحواجز ونقاط حراسة الجيش والشرطة والعصابات المدنية التابعة للقذافي. فهؤلاء ببساطة ينشئون خيمة في وسط حي ويجلسون هناك طوال النهار كله وأيديهم دائما على الكلاشينكوف.

أقرر الخروج مع صحافي آخر ومترجم الى حي تاجورا. فاجأني أن تلقينا إذنا. صفوف طويلة أمام المخابز. يوجد نقص في الخبز. وصف طويل أمام مركز شراء غاز الطهو. كانت تاجورا قبل ذلك مدينة شرقي طرابلس وامتزجت الآن بالمدينة التي يسكنها مليون ونصف مليون ساكن. لكن ناس تاجورا مثل ناس الاحياء الاخرى الذين تمردوا، ينتسبون الى عائلات والى قبائل أصيلة في المنطقة، بخلاف الخليط الكبير الذي تدفق على طرابلس وسكنها في إثر النفط.

يدحرج علي ابراهيم ابن الخامسة والاربعين في عدم ارتياح اسطوانة الغاز الفارغة التي يمسك بها. يرمي بنظرة خائفة نحو جماعة من الرجال بلباس مدني يقفون جانبا ويرقبوننا ويرفض الجواب عن اسئلتي. وهكذا عرفت ان رجال القذافي مبثوثون في كل مكان. لا يحملون سلاحا على نحو معلن لكن يمكن التعرف عليهم بحسب شكل شعورهم الافريقي واسلوب اللباس وفي ضمن ذلك النظارات الشمسية الشهيرة تلك التي استعاروها من منظر الزعيم المعروف جدا.

في النهاية استجاب علي ابراهيم وقال: 'آمل ان يعود الوضع سريعا الى ما كان عليه.

أريد استقرارا. عندي زوجة وثلاثة اولاد'. لا استطيع ان اقول أكثر. أما محمد قليل، معلم جغرافيا، فوقف وراءه في الصف وهو مستعد للحديث خاصة. يتحدث في حذر عن المعارك التي وقعت أمس: 'كان اولئك شبانا رموا بقنابل حارقة، ولهذا أطلقت عليهم قوات الامن الغاز المسيل للدموع'.

عن أي تغيير تبحث؟
'لا أبحث عنه ولا يبحث عنه الزعيم ايضا'، يسارع الى الجواب ويضيف 'القذافي والشعب ايضا يريدون حقوق المواطن وحرية التعبير وامورا كتلك الموجودة في دول اخرى. فنحن نستحق هذا ايضا. وعدنا الزعيم أمس بأن نحصل على حقوق أكبر وعلى سكن وعمل للشباب'. هل تصدقه؟ سألته. ابتسم قليلا وقال في خفوت '80 في المئة'.

بخلاف مصر التي فيها 80 مليون نسمة لكن فيها موارد محدودة، يوجد في ليبيا أقل من 6 ملايين مواطن وايراد يبلغ عشرات مليارات الدولارات من النفط. البلد غني لكن الشعب فقير بسبب السلطة الفاسدة. ومن المفارقات الاخرى انه يعمل في ليبيا نحو مليون عامل اجنبي لكن لا يوجد عمل للشباب المحليين.

دُفع الى الحلقة التي اجتمعت حولنا فجأة شخص طلب الحديث. قال: 'اسمي احمد سليمان وأنا رجل اعمال. فعل القذافي من اجلنا ما لم يفعله أحد من اجلنا. قبل الثورة في 1969 سكنت عائلتي كوخا قذرا ولم يكد يوجد عندنا ما نأكله. واليوم توجد لنا جميعا شقق حسنة ومصدر عيش. من اجل هذا اؤيد القذافي'. ويهز رجال الامن الذين اقتربوا للاصغاء ايضا ويبدو انهم هم الذين أرسلوا هذا الرجل للحديث رؤوسهم موافقين مبتسمين.

النصر ولا يهم أيّ نصر
طلبت زيارة الحي الايطالي من المدينة القديمة، حيث عاش يهود طرابلس في الماضي. لا توجد لذلك اليوم علامة وذكر لكن عندما خرجنا من ابواب الفندق أشار المترجم الى المنطقة الممتدة من شمال الفندق حتى البحر وقال: ' كل هذا يسمى اراضي الفلاح'. من هذا؟ سألت. 'يهودي ثري عاش هنا وهرب'.

هرب رفائيلو فلاح الى ايطاليا بعد 1967 مثل كل يهود ليبيا. هرب خوفا من الجمهور المنكل الثائر الهائج، الذي عرفته من قريب في مكوثي في طرابلس. أُممت اراضي فلاح التي بلغت مئات الدونمات ويبني القذافي عليها اليوم مشروعا سكنيا ضخما فيه آلاف الشقق المخصصة للطبقات القليلة الدخل. تبني المشروع شركة صينية، بيد أنه مع بدء الاضطرابات ترك العمال الصينيون المكان ويقف ساكنا الآن.

في السادسة صباحا من اليوم التالي استيقظنا في الفندق على صوت اطلاق نار قوي سمع قريبا جدا وفي انحاء المدينة كلها. ميز ذوو الآذان الحادة هدير محركات دبابات ومدرعات تتحرك غربا نحو الزاوية كما يبدو.

كانت النار قوية وقريبة جدا بحيث أسرعت الى حزم حقيبتي والكاميرات وخرجت جريا من غرفتي المتجهة نحو الشارع الى القسم الداخلي من الفندق غير المكشوف لاطلاق النار من الخارج.

تحاول مجموعة الصحافيين المتجمعة على عجل تخمين ما يحدث. توجد اشاعات عن معركة بين معسكري عائلة القذافي في منطقة العزيزية قرب الفندق، لكن بعد ساعة أبلغنا صحافي ينزل فندقا آخر في المدينة انه يرى العابا نارية فوق الميدان الاخضر في مركز طرابلس القريب من المدينة القديمة التي اعتاد القذافي ان يخطب في الجماهير في الايام الاخيرة من فوق أسوارها.

تبين ان الحديث عن اطلاق نار فرحا. بشر التلفاز الليبي الجماهير مع الفجر بأن جيش ليبيا خرج في الليل للهجوم على المتمردين وانتصر في جميع الجبهات. وكان هذا كافيا لاخراج المؤيدين الى الشوارع. والى ذلك يبدو ان رجال الامن أُمروا باطلاق رصاص الابتهاج العفوي في الجو.

امتلأت الشوارع بصفوف السيارات وفيها ناس ذوو شالات خضراء ونساء يلبسن الملابس الخضراء، كلهم يرفعون صور القذافي ويرفعون علامات الانتصار ويقولون صارخين 'نصر! نصر!'.

كيف تعلم ان الجيش انتصر؟ سألتُ شابّـاً انقض عليّ محتضنا مقبلا عندما خرجت من باب الفندق. 'سمعت من المذياع ومن ناس في الحي'، أجاب مبتهجا. وهكذا يجيب ايضا محتفلون آخرون.

مجموعة من فتيات مدارس ثانوية بالزي المدرسي يلوحن بكتاب القذافي الاخضر ويحتفلن بالنصر برغم انهن لا يعلمن عن أي نصر يتم الحديث. في كل مرة مر في الشارع شباب مسلحون أطلقوا رصاصا في الهواء وصرخوا بصرخات هستيرية تأثرا وتأييدا للقذافي.

تجمع في الميدان الاخضر مئات الآلاف من مطلقي النار يغنون ويرقصون احتفالا بالنصر الذي لم يكن ولم يوجد.

أصبح واضحا فجأة مبلغ نجاح القذافي (برغم عاداته العجيبة وسلوكه غير السوي) في غسل أدمغة الطبقات الدنيا من شعبه على نحو يجعلها تصدق بلا تردد وشك كل ما يقول لهم الزعيم ووسائل الاعلام التي تخدمه. حتى عندما يواجه الجيش الليبي المخلص للقذافي مقاومة شديدة يكفي ان يقول التلفاز ان الجيش منتصر كي يعتبر ذلك حقيقة. والحال كما هي في كتاب جورج اورويل '1984'، فالحقيقة في ليبيا القذافي كذب والكذب حقيقة.

يديعوت 11/3/2011

المصدر صحيفة القدس العربي اللندنية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق