السبت، 19 مارس 2011

زينب محمود: سيناريوهات حكم القذافي وغينيس للألقاب

عندما قامت حركة الضباط الوحدويين الأحرار (وهو اسم أطلق على المجموعة القيادية) بقيادة الملازم ثان معمر القذافي، أعلنت عن هاجسها الوطني الذي يكمن في إجلاء القواعد البريطانية والأمريكية، بالإضافة إلى 20 ألف إيطالي سيطروا على أهم مقدرات الوطن.

والتفت حول هذا الهاجس وبعض الشعارت المعهودة التي في جعبة أي حاكم عربي وفي مقدمها القضية الفلسطينية، غالبية الشعب. وعليه تم لهذه الثورة الأمر وترسخت أقدامها على الأرض. كانت توجهات هذه الحركة في مسار الفكر القومي الناصري، حيث مثل عبد الناصر أباً روحياً لهم، وتحديداً للقذافي، وظهر ذلك جلياً عندما استعاروا شكلاً يحتوي 'الاتحاد الاشتراكي' ليكون نظاماً سياسياً في ليبيا.

كان صوت القذافي بنزعته الحماسية مؤثراً وفعالاً في أجزاء من وطننا العربي، ومعبراً بشكل أو بآخر عن رغبات قطاع كبير من الشباب الطامح إلى توحد الدول العربية. وكان الاستيلاء على إذاعة صوت الوطن العربي وتحويلها إلى صوت الثورة الشعبية (صوت الوطن العربي الكبير، صوت اللجان الثورية) احد الأدوات المجندة لإيصال صوت العقيد (الرتبة التي منّ بها وخلعها على نفسه منذ تقلده السلطة، كما تبعتها صفات أخرى تفرد لها مجلدات) وأفكاره وطروحاته، في محاولة لإيجاد مكان له على الساحة، لا سيما بعد ان لفظته الحظيرة الدولية بعد مواجهة قطيعة الأنظمة الغربية، لتبنيه ما يسميه حركات التحرر الوطني. ووصل الأمر إلى الاعتداء، كما حدث في الغارة الأمريكية على مدينتي طرابلس وبنغازي في عهد الرئيس ريغان. وعلى الصعيد العربي إثر استبعاده من المشاركة في قرار حرب اكتوبر عام 1973، وتصاعد الخلاف ليصل إلى حرب محدودة بينه وبين الجارة مصر عام 1977.

في هذه الأثناء كان العقيد يعكف على تدوين كتابه الأخضر ليكون بمثابة ايديولوجية النظام في ليبيا، ويتعرض فيه بالنقد لكافة الديمقراطيات السائدة في العالم، وهي بشكلها الحالي ما هي إلا نتيجة صراع أدوات الحكم على السلطة، ولكن في ثوب ديمقراطي مزيف وينسحب ذلك بطبيعة الأمر على التنظيمات الحزبية. أما الحل فبسطه في هذا الكتاب في ما يسميه بسلطة الشعب في مؤتمرات (شبيهة بتجربة المجالس الشيوعية) وكان ذلك فرصة سانحة لتفرد القذافي بالسلطة وتقمص شخصية الثائر، فيرتدي قناع القائد الرمز ليس إلا. وفي هذا الصدد يجرّم كل من يضطلع بالحزبية التي تؤدي به مباشرة إلى الموت المحقق، وفقاً لمقولته (من تحزب خان) (القانون رقم 3 عام 1972) ويحرم المواطن من المشاركة الفعلية في صنع القرار ويوظف القوانين لصالح حكمه. ويرفع رصيد الضمانات الرسمية له، وبذلك يجمع خيوط اللعبة بين يديه ويضرب بعرض الحائط كل ما يتعارض مع فرديته المطلقة وامال الجماهير في الديمقراطية.

ذلك كله بالتزامن مع نظام لم تتحدد معالمه بدستور مكتوب. فحاول بكل الوسائل تقويض الأسس التي تبنى عليها الدولة كمقومات تكوين المجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية، مما ساهم في ضعف جهاز الدولة وهشاشته، وتهميش الهوية، وبيع الأوهام للشعب الليبي 'كمقولة السلاح والسلطة والثروة بيد الشعب' ولقد بقيت هذه المقولات، التي عجّ بها كتابه الأخضر، تنضح هامشاً كبيراً لسياسته ذات النفس الطويل والعميق ويقلبّها كيفما يشاء، وكما يتراءى له، ولكن في وقتها المناسب. غير أن الغالبية العظمى لم تنطل عليها هذه المقولة وغيرها، التي أثبتت زيفها بمرور الزمن، والتي بقي الشعب منها خالي الوفاض. وزيادة في تحصين نفسه وحيث لا طوائف بليبيا كي يعزف على وتيرتها وتسنح له الفرصة للتلاعب بها، أخذ يعمل جاهداً على كل الصعد لترسيخ سياساته بطرق شتى، فها هو ينتهج سياسة فرق تسد في محاولة لاختراق نسيج هذا الشعب المتجانس، ولتتوغل هذه السياسة بين مناصر ومناوئ بين أفراد الشعب ترقى إلى درجة العداء حتى بين أفراد الأسرة الواحدة.

أما السلطة الرابعة، فحدث ولا حرج، فقد ناصبها العداء منذ أن وضع قدميه في السلطة، وأخذ يتربص بها الدوائر لإدراكه خطورة دورها. فأقام لها عدة عوائق ومتاريس، بمخابرات تهددها بين الفينة والفينة، ولم يكتف بذلك فهو يدأب في تلفيق تهم تعاملها مع جهات أجنبية وتعطيل مسيرة العمل الثوري، ولم يتوان في الزج بالأقلام الشريفة في المعتقلات، فأحبط دورها، وأسس لمنابر جديدة، في ما يشبه الصحف، ليتفرد بطرح رؤاه. ويعتم على كل مثقفي البلد وأدبائه ويتفرد بالتنظير والفكر المبدع. وها هو بحكم سلطته وامكانياته المادية الضخمة يشتري الأقلام فيحتويها، كما الفضائيات والإذاعة المسموعة والمرئية فتطبل له ثناء على عبقريته الفذة وانجازاته التي لو قسناها بما يناهز الخمسين عاماً لا يُلتفت إليها، ولا تحسب له بل تحسب عليه. كما لا يفوته أن يسخر هذا الإعلام بمختلف أشكاله لإثارة الردود الفعلية المتشنجة على الصعيد العربي والعالمي.

ولتعزيز نظامه وردع الشعب كي يبقي عليه تحت قبضته، لا يتورع عن تأسيس لجان ثورية (آذار/مارس عام 1979) كأداة لخدمة منهجه الإرهابي ومسيرته، إرهاب هو لصيق بشخصيته، شخصية جامحة جانحة للعنف متجذرة في القمع، وهذه اللجان من دون منازع هي من أهم الأدوات الأساسية القمعية المفضلة للقذافي لاضطلاعها بدور مهم في توفير الغطاء لممارساته الإرهابية وفي احتواء الجماهير والانضواء تحت منظومته كرهاً أو طوعاً. وهي على الصعيد الخارجي كما الداخلي أيضاً، اصطلاح مرادف للإرهاب. وكان دورها المعلن يرتدي طابع الدفع بالجماهير وحشدهم في تلك المؤتمرات الشعبية والحفاظ على الإنجازات الثورية، للإيحاء أو بالأحرى الإيهام باستقلالية الرأي وتنفذ الحكم الشعبي، غير أنه سرعان ما أميط اللثام عن هذا السيناريو وتبدت الحقيقة المرة، التي تمثلت في البحث المجنون عن مناوئي الثورة، وهم بالنسبة إليه عناصر معوقة للتحول الثوري، وتعقبهم في الداخل والخارج ثم تصفيتهم جسدياً، وتأسيس محكمة ثورية من هذه اللجان. وأصبحت مقررات هذه اللجان ثوابت دائمة وسياسة رسمية ينطلق منها القذافي، خاصة البند الإرهابي منها، غير أن التململ الذي أبداه أفراد الشعب وشعور القذافي بأنهم ضاقوا ذرعاً بتلك المظالم والأعمال الإرهابية التي ارتكبت في حقهم، وإدراكه لخطورة موقفه وسياساته المتهورة، وتحت ضغط الدول الكبرى والمنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمة حقوق الانسان نراه يطل علينا في خطابه (1988) في عرض مسرحي منحط لا يليق بمستوى وعقلية مشاهديه، يعترف فيه بأخطائه ويعلن تراجعه عنها، بحجة أن لكل مرحلة أخطاءها، وفي إطار متغيرات دولية تضطره لسلوك سياسات معينة تتطلبها المرحلة.

وكي يمتص غضب الجماهير ونقمتهم عليه وتهدئة الرأي العام العالمي، يجود القذافي بانفراجة قليلة، فيفرج عن مساجين سياسيين قد انتهت فعلاً مدة عقوبتهم، ويتصدق بهامش من الحرية والشعور بالأمن والأمان فيصدر (وثيقته الخضراء الكبرى لحقوق الانسان في عصر الجماهير) ليلتف على هذه المنظمات وغيرها، وذهب ذلك كله ادراج الرياح، إذ أن تلك المساحة الضيقة من الحرية أقضت مضجعه، فها هو ينكص على عقبيه مؤكداً على سياسته السابقة ويصادر بارقة الأمل فيها، ويلقي بأخطائها وانحرافاتها على كاهل الشعب، بعد فشله في إلصاقها بالآخرين، ويغمط الشعب حقه في ما وعده به ويسلب منه شعور الأمان بادعائه (ان الشعب كافة قد انحرف وألا يحملوه مسؤولية انه حكم يوما ما ليبيا). وإمعانا في حب الظهور وانه نموذج للقانون، والقضاء بحوزته، وان مقاليد السلطة كلها بيده، ها هو يعلن عام 1989 استمراريته في سياسته التصحيحية، فيعلن عن تقديم المفسدين لمحاكم شعبية موسعة، غير ان ذلك الهراء بقي طي الكتمان كما بقي حبراً على ورق.

وكان للحصار الاقتصادي الذي فرض على ليبيا عقب (قضية لوكربي) في النصف الثاني من الثمانينات، تداعياته السلبية على صعد كثيرة وفادحة، حيث انخفضت عائدات النفط الذي كان يصدر بكميات هائلة، فتضخمت الثروة، وأصبح الدخل القومي في أيدي الفئة الحاكمة وانغلق النظام على نفسه، وتفردت المجموعات المتنفذة بالاستفادة من هذا الحصار بالتهريب ووسائل أخرى من جهة، وتكدس البؤس حول بعض المدن الكبرى والقرى من جهة أخرى. وقد أصيب هذا الاقتصاد في مقتل عندما شُلت تقريباً كل جوانب الحياة فيها، فقد عُطلت جميع الأنشطة الاقتصادية الخاصة والفردية، خاصة بعدما قضي على أحد المصادر الاستثمارية الرئيسية، إذ قضي على الملكية الخاصة وصودرت جميع العقارات الزائدة عن الحاجة. وبحجرته السحرية فاق عدد سمّان القذافي عصافير المثل العربي.

هذه التطورات لا محالة كان لها عظيم الأثر في وضع المجتمع المدني، إذ كل هذا التخبط في سياسات العقيد لإيجاد صيغة يحكم بها الشعب الليبي بقبضة من حديد لا يُفلّ، فحواه تضييق الخناق على هذا الشعب. وما حرمان الشعب الليبي من مقدراته واستئثاره بها، وعدم ممارسة هذا الشعب لحقوقه واتخاذ قراراته وغياب الممارسة الحزبية، إلا برهان ساطع على ذلك. وترى العقيد يحكم ولا يحكم! يمرر قراراته التي يحيكها ويحبكها بنفسه ويفصلّها كما يشاء على مقاسه عن طريق المؤتمر الشعبي العام، ليقول في ظهوره الثاني بعد ذلك المقتضب والعشوائي في أحداث ( ثورة 17 فبراير) الماضي متنصلاً من أي مسؤولية، إنه لا يملك القرار، فالسلطة دائماً بيد الشعب،  
وإنه حينما تلطخت يداه بقتل الثوار وتاريخه الطويل الملوث بقتل الآلاف من الشعب الليبي وتورطه في جرائم قتل (أكثر من ألف سياسي في سجن (أبوسليم) لم تصدر منه أي أوامر بذلك، وبذلك تنتفي صفته كرئيس مسؤول وعليه تُستبعد محاكمته، ويتلافى مصير صدام حسين، حتى بعد التنازلات التي أمطر بها الغرب وطرح نفسه بشكل أقل ما يقال عنه مذلّ. وحتى يؤكد على ذلك ويبرئ نفسه من كل هذه الممارسات ويسقطها على الآخرين، نراه على رأس مظاهرة يقودها مع أزلامه، فيما يدعي بأنها ضد الفساد. كما نراه هذه الأيام يصدّر ابنه سيف الإسلام بشكل مكثّف الذي عمل على تنميقه وتزيينه وقدّمه في أبهى حلله ليورثه عرشه ويمسح بممحاته السحرية أخطاء أبيه الفادحة، وذلك عندما يضطلع بإصلاحات سياسية وسيناريو (جمعيته الخيرية لحقوق الإنسان) الذي التف فيه على قسم من المعارضة، فيستقطبها كي يأمن جانبها، خاصة بعد عقد مؤتمرها الناجح في لندن، بعد ان قام بإغرائها بطُعم المصالحة ويحدث انشقاقا فيها. هذه هي الخطوط العريضة لفلسفة الحكم السائدة في ليبيا، التي خالت في بادئ الأمر على فئات من الشعب واعتنقتها ثم تشبثت بها، واعتقدت أن واضعها ينشد بالفعل دفع المجتمع من خلالها الى تسيير ذاته، ولكنه أبى إلا أن يخذله ويقمعه ويحط قدره ويقلل من شأنه بمراوغته وتزييف كل شيء والمزايدة على المبادئ والقيم التي أعلنها واستنزاف الرصيد المعنوي والمادي له. وهو هدف في حد ذاته مثالي غير أن كميات متراكمة من الغبار عالقة به، وحصد من وراء ذلك ما لذ وطاب.

وها نحن وفي هذا الوقت العصيب، نتحرق شوقاً لانتظار ما تتفتق عنه عبقرية معلمنا وقائدنا الفذة من سيناريوهات جديدة يعكف على بلورتها ليل صباح، في محاولة يائسة ومخزية لدحض الثورة الشعبية العارمة.

(*) إعلامية ليبية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق